توقف المطر للتو.. خرجت من وظيفتها و وقفت على الرصيف تنتظر قدومه ككل يوم، تحمل جرائد إعلانية مختلفة..
البارحة أمضت برفقة هذه الجرائد فترة المساء تتصفحها، ترسم دوائر حول الإعلانات التي تهمها، تتصل بأصحاب الإعلانات، تسأل عن الموقع، عن السعر المبدئي المعروض و تحدد مواعيد لتذهب إليها اليوم برفقة خطيبها ثم تغسل يديها من السواد الذي كسا رؤوس أصابعها بعد ساعات من تصفح هذه الجرائد..
تنتظر قليلاً، تذرع الرصيف ذهاباً و إياباً، تمسك المحبس في إصبعها الأيمن بحركة لا شعورية تديره عدة دورات، و تنتظر..
لابد أنه عالق في زحمة السير كالعادة فصفوف السيارات المتراصة أمام عينيها تجسد فترة الذروة بكل ما للكلمة من معنى..
الأرض مبللة، حفر صغيرة في الشارع امتلأت بالماء و الطين و القذارة و لو لم يكن الشارع مزدحماً و السيارات مضطرة للسير ببطء لانتقلت المياه التي في هذه الحفر بفعل السيارات المسرعة لتبلل جواربها و ثيابها..
تنظر نحو الأفق علّها تلمحه من بعيد، تنظر إلى ساعتها ثم تعود و تنظر إلى الأفق حيث تشكل قوس قزح لطالما انتظرت رؤيته في طفولتها في أيام كهذا اليوم المتقلب ما بين المطر و الصحو..
تدس يدها في حقيبتها لتتفقد مظلتها خشية أن تكون قد نسيتها في المكتب، تشعر أصابعها بالمظلة فتخرج يدها من الحقيبة و تتابع انتظارها بالنظر ما بين عقارب ساعتها، الأفق البعيد و قوس قزح..
ها هو يصل راكضاً.. بنطاله البني، قميصه البيج و معطفه الجلدي الذي أصبح علامة فارقة له على مدى ست شتويات طويلة مضت..
ملاذ (بنفس مقطوع): ما تواخذيني حبيبتي بس و الله ما كنت لاقي سرفيس كله مليان.. و أنا خايف عليك تكون تعبت من الوقفة أو حدا زعجك بشي كلمة.
ديمة: مو مشكلة حبيبي مو مشكلة..
ملاذ: كم موعد عنا اليوم؟؟
ديمة: أربعة.
ملاذ: شو رأيك نمشي دغري و لا نشرب شي فنجان قهوة بالكافتيريا؟؟
ديمة: لأ.. خلينا نمشي دغري لأن مواعيدنا بمناطق بعيدة و يا دوب نلحق.
ملاذ: متل ما بدك حبيبتي.. بس لوين طريقنا هلق؟؟
تخرج من حقيبتها دفتراً صغيراً في حين يحمل عنها ملاذ الجرائد، تخبره عن الموعد الأول: تفاصيل الإعلان و العنوان ثم تقف بجانبه بانتظار السرفيس..
يؤشر ملاذ لأحد السرافيس، يفتح لها الباب، تصعد هي و تجلس في المقعد المجاور للنافذة ليتبعها هو، يمد يده عميقاً في جيب بنطاله و يخرج عشر ليرات يناولها للراكب الذي أمامه ثم يجلس بجانبها و يمسك يدها و هو ينظر في عينيها و يبتسم..
تشيح بعينها عنه، يمضيان الطريق بصمت، يدها في يده و نظرها مسمر على النافذة التي كستها الرطوبة بحلة بيضاء رقيقة تحجب عنها رؤية الشارع، تتناول منديلاً، و تمسح النافذة لتتمكن من رؤية الشارع..
رائحة رطوبة المعاطف التي بللها المطر، أرض السرفيس غطاها الوحل، أنفاس الركّاب، رائحة فروج مشوي تنسل من كيس بلاستيكي يحمله أحدهم فيعبق السرفيس برائحة الثوم.. كل النوافذ مغلقة.. وحدها رائحة عطره تهف عليها بين الحين و الآخر و تخفف من حدة كل الروائح الأخرى..
تسحب يدها من يده، تعدل غطاء رأسها و تعود لتسلم له يدها من جديد بحركة أوتوماتيكية.. يداعب خاتم الخطوبة الذي في بنصرها بأصابعه.. و كلما نظرت إليه تجده مبتسماً..
كيف يستطيع الابتسام دائماً؟؟ و لماذا تشعر اليوم بأنها عاجزة عن رسم أي تعبير على وجهها؟؟
تعود لتنظر نحو النافذة، و تسرح بأفكارها.. مليت.. بينها و بين نفسها..
سنوات الخطوبة الثلاث، ملت من البحث عن سكن مناسب دون جدوى، ملت من الحديث عن العرس المنتظر الذي تأجل موعده مرات و مرات، ملت من فستان زفافها المعلق في خزانتها منذ سنة و نصف، ملت من جهازها الذي اشترته قطعةً قطعةً من راتبها طوال هذه السنوات الثلاث في كل مرة تنزل فيها إلى سوق الحمدية ما أن تقبض راتبها أول الشهر، ذلك الجهاز اللعين الذي كومته مع بضعة ألواح من الصابون في حقيبة سفر صغيرة أسكنتها سقيفة البيت و كأنها قطعت الأمل من أنها سترتديه يوماً.. ملت من خوفها من أن يتغير مقاسها فيصبح فستان عرسها كبيراً عليها كونها تزداد نحولاً يوماً بعد يوم، ملت من انتظار العيد الصغير و العيد الكبير اللذان غالباً ما كان اليوم الأول من كل منهما موعداً افتراضياً ليوم الزفاف الذي لم يأت، ملت من رؤية صديقاتها يتزوجن الواحدة تلو الأخرى رغم أنها أول من خُطبت، ملت من شراء نقوط لهذه و نقوط لتلك لتبارك لها انتقال المحبس من اليد اليمنى إلى اليسرى في حين أن محبسها هي لا يزال يصر على سُكنى بنصرها الأيمن.. ملت من سماع أخبار عن تلك التي حملت و تلك التي أنجبت في حين أنها تنتظر طفلاً يحمله لها زواجها المنتظر منذ أن خُطبت..ملت انتظار خطيبها كل يوم لتذهب برفقته لرؤية المزيد من البيوت و زيارة المزيد من المكاتب العقارية، ملت الحديث عن العقارات و أسعارها، ملت من جشع أصحاب المكاتب العقارية، كذبهم، مراوغتهم و غشهم، ملت البحث في الجرائد عن بيوت في مناطق نائية في آخر الدنيا لم تسمع باسمها يوماً و تحتاج لثلاثة سرافيس كي تصل إليها، ملت من حالة العجز، ملت انتظار حلول لن تأتي و معجزات لن تحدث و يوم زفاف يبدو بعيداً بعيداً، ملت من أرغفة الأمل و مياه الصبر تقتات عليها، ملت من شعورها أن السنوات تمر عليها و هي ثابتة في مكانها، لقد ملت من الوقوف و من الانتظار....
لماذا لم تمل منه بعد؟؟
حين أحبته لم تهتم لظروفه الصعبة، حين أحبته رأت فيه ملاذ، ملاذ ابن أبو ماهر جارهم الموظف الشريف النظيف، رأت فيه ملاذ الشاب الطموح العصامي، رأت فيه ملاذ الذي يمقت الكذب و يحتقر الخيانة، و يشمئز من المال الحرام، رأت فيه الشاب الشهم الذي لا يتورع عن مساعدة الغريب قبل القريب، رأت فيه وفاء شاب رفض ترك والديه العجوزين وحدهما بعد أن تزوج إخوته و سافروا، رأت فيه تصميماً و صبراً و اجتهاداً في سبيل تحقيق أهدافه، رأت فيه صدق عاشق أحبها لسنوات و بادلته هي الصدق بالصدق و الحب بالحب ليثبت لها يوم تقدم لخطبتها أنها لم تخطأ يوماً حين أحبته و بأنها كانت محقة حين وثقت به فاستطاع بذلك أن يقتلع كل الشكوك التي حاول البعض أن يزرعوها في نفسها..
و لكن ماذا بعد؟؟ ماذا بعد الحب و بعد الصبر و بعد الانتظار؟؟