التجديد في الفكر الاسلامي وعنصر المرونة في الشريعة التجديد في الفكر الاسلامي وعنصر المرونة في الشريعة
آية اللّه الشيخ محمدعلى التسخيرى
رئيس رابطة الثقافة والعلاقات
الاسلاميةـ الجمهورية الاسلامية الايرانية
قد لا نأتي بجديد لو تحدثنا عن أهمية اعادة النظر المستقرة في مضامين الفكر الاسلاميوصيغه، بهدف تجديدها وتفعيل العناصر الساكنة فيها: لأن استشعار هذه الاهمية من قبلأصحاب الفكر والاختصاص بات من البديهيات التي لاتحتاج الى دليل.وحسبنا ان الواقعالمتغيِّر والحوادث المستجدة وسرعة التطور التي نعيشها بشكل يومي، تجلعنا فيمواجهة دائمة ومباشرة مع ضرورة التجديد في الفكر الاسلامي وهذا لايعني ان الضرورةتبيح لنا فتح الباب على مصراعيه أمام كل دعوة للتجديد أو كل منهج يهدف الى التجديد،بل على العكس، فان تزايد تلك الأهمية تتناسب طرديا مع تزايد الحاجة الى ضبط عمليةالتجديد وتقنينها بالطريقة التي تجعل من التجديد وسيلة تمكِّن الفكر الاسلامي مناستيعاب كل مجالات الحياة، وتجعل الاجتهاد أداة لاخضاع الواقع للشريعة، وحينها لايكون التجديد هدفا بذاته، بل وسيلة لبلوغ الغاية التي يحقق الدين من خلالها مقاصدهوأهدافه.
وأعتقد أن عقد مثل هذه المؤتمرات والملتقيات يمثل ـ في جانب منه ـ حرصا من قادة الفكر الاسلامي حماية هذه الفكرة من موجات الاستهداف المباشر وغير المباشر، والتي ترفع ألوانا مختلفة ومتنوعة من الشعارات البراقة أحيانا والقاتمة اخرى الأمر الذي يجعلنا حريصين على استمرار عملية التجدد بالمقدار نفسه الذي نحرص فيه على سلامة مناهج التجديد وأصالتها.
ان عملية التجديد التي نقصدها تتمثل في ايجاد صيغ فكرية جديدة تعتمد المصادر الاسلامية المقدسة، سواء كانت هذه الصيغ جديدة في موضوعاتها أو انها معالجات لموضوعات قديمة أو انها اعادة لتنظيم أفكار موروثة والمهم هو أن تكون هذه الصيغ قادرة على الاجابة على التساؤلات الجديدة، و قادرة أيضا على تلبية الحاجات المتغيرة التي تفرضها تحولات الزمان والمكان.
وعلى هذا الاساس فان الاجتهاد لصيق بعملية التجديد، فهو أداتها والمولِّد الذي ينتج مواد التجديد وبرغم أن الاجتهاد يعني اصطلاحا ـ على وفق الفهم الموروث ـ القابلية على استنباط الحكم الشرعي من مصادر التشريع الاسلامي،إلّا ان تعميمه ليشمل كل مجالات الحياة، أو بالاحرى كل مجالات الفكر الاسلامي التي تتدخل في كل زوايا الحياة، سيجعل الاجتهاد منسجما مع أهداف الشريعة نفسها، والتي هي قانون الحياة اذن، فالاجتهاد هوأداة التجديد في فقه الأفراد وأداة التجديد في فقه المجتمع، و في الفكر الاقتصادي والفكر السياسي والفكر الاجتماعي وغيرها، فضلاً عن قضايا علم الكلام، وأدوات الاستنباط وآليات فهم المصادر الاسلامية المقدسة، فهذه كلها تحتاج الى الاجتهاد للتجديد. وهذا ما يجعل عملية التجديد ضرورية وخطيرة في الوقت نفسه وتمكن خطورتها في حساسيتها البالغة وآلياتها الدقيقة وطريقها العصب، لأن اي تهاون أو انحراف فيها ـ لاقدّراللّه ـ سيؤدي الى نتائج كارثية لا تتوقف آثارها على المجدد أو المجتهد أو المفكر وحده؛ بل تتعداه الى الامة بأكملها أو الى فصيل وشريحة منها ولا نبالغ إذا قلنا بأن المفكر داعية التجديد يمشى على حد السيف خلال عمله،و بالتالي فأي خطأ سينجم عنه منظومة كاملة من الاخطاء.
وتنطلق عملية التجديد من قاعدة المرونة أو عنصر المرونة في الاسلام، فعنصر المرونة هذا هو الذي أعطى للاجتهاد شرعيته، وخلق منه اداةً للتجديد في الفكر الاسلامي ومن هنا ففهم عملية التجديد تبدأ من فهم عنصر المرونة في الشريعة الاسلامية ومظاهرهاو تطبيقاتها وهو ما سنحيله الى محاور البحث.
بين التجديد والمرونة
التمييز بين التجديد فيالفكر الاسلامي وعنصر المرونة في الاسلام؛ يمثل مدخلاً للتعريف على حقائق التجديد،ومدخلاً أيضا لاكتشاف مظاهر المرونة وتطبيقاتها ويتم هذا التمييز عبر أساسين:
الأول: ان الفكر هو تصور مستقى من الاسلام، اي انه نتايج فهم المفكر للمصادر الاسلامية المقدسة عبرالأدوات الشرعية للفهم. وهذا الفهم ـ الذي يبذل فيه المفكر كل جهده ليكون النتاج الفكري أكثر قربا من مراد الشارع المقدس ـ له علاقة أيضا بطبيعة فهم المفكر للواقع ومن هنا فان الفكر المُنتَج يتأثر بثقافة المفكر ومعرفته بالعلوم ذات المدخلية بموضوع الفكر، فضلاً عن بيئة المفكر واستجابته لعوامل الاختلاف و نوعيته واحاطته بجوانب الموضوع وهذه العوامل متغيّرة من مفكر لآخر، الأمر الذي يؤدي الى بروز نوع من الاختلاف بين النتاجات الكفرية فان عملية الاستنباط هذه أو الفهم هي الحيز البشري في الفكر الاسلامي وبالتالي فالتجديد الفكري يتأثر بمجمل هذه الحقائق؛ لأنه غاية المفكر التي يستخدم من أجل الوصول اليها فهمه للاصول المقدسة وللواقع أيضا وهو الذي يعبَّر عنه بالاجتهاد.
اما الاسلام فهو نظام شامل ومتكامل، ويعبِّر عن الثوابت التي لا تقبل التجديد بذاتها وللاسلام أساليب ثابتة في التعامل مع الجانب الثابت في الحياة الانسانية، وله ايضا أساليب مرنة في التعامل مع الجانب المتغيِّر، اي ان مرونة الاسلام وشريعته السمحاء تقتصر على معالجة المتغيرات، التي تمثِّل المساحة التي تتحرك فيها عملية التجديد.
الثاني: ان مرونة الشريعة تخلق مساحة مفتوحة من المتغيرات، وهي مساحة مشروعة تتدخل فيها الاجتهادات أو تصورات المفكر والعوامل المتغيرة في شخصيته و في فهمه، والتي يعمل المفكر في اطارها على تنظيم الجوانب التقنينية (التشريعية) والتنفيذية للحياة، بهدف اخضاع الحياة للشرعية ومن هنا فان البعد المرن في الشريعة هو الذي يحدد مجالات التجديد في الفكر الاسلامي ومساحاته وهذه المساحات تتسع كلما ازدادت متغيرات العصر وضغوطاته وتحدياته.
مظاهر المرونة في الشريعة
لا تعني المرونة التنازل المبدئي او الميوعة التنظيمية، فان كلاً منهما يتنافى مع عقائدية المبدأ، المرن و واقعيته العملية؛ ذلك ان العقائدية والواقعية توجبان ثبات الاسس العقائدية والمفاهيم التصورية وثبات النظم والبناء العلوي الذي يقوم على أساس من ذلك التصور الرصين. فالمرونة إذن ـ تعنى التكتيك والتدرج الواقعي يلحظ ضغوط الواقع ويسهدف تعميق التصور الأصيل، والوصول الى تطبيق الصورة التنظيمية المثلى كما تعني قدرة النظام على استيعاب التحولات الزمانية والمكانية والتعقيدات الاجتماعية كلها، ووضع العلاج الواقعي لها في إطار الاطروحة العامة للتنظيم. وبالتالي فالمرونة هي اتخاذ موقف مؤقت يتغير بتغيرالحالة بهدف المحافظة على الموقف العام.
والعقيدة لا تخضع لعامل المرونة، فهي الثابت ـ بالمطلق ـ الذي لا يخضع للمساومة تحت ضغط الواقع. في حين أن التشريع وأساليب التطبيق والتبليغ فيهما جوانب متغيرة، و لذلك فان لعنصر المرونة مدخلية في صياغاتهما ونظمهما وهنايكمن سر خلود الاسلام وبقائه وقابليته على استيعاب كل الوان التطور والتحدي و تتمثل أهم مظاهر المرونة في الشريعة الاسلامية بمايلي:
1- مقاصد الشريعة و قواعدها الفرعية، وهي كما يقول علماء اصول الفقه ـ على نوعين: مقاصد عامة، و ترتبط بالغايات العامة للشريعة، والتي من شأن أحكامها الكلية تحقيق مصالح الامة اما المقاصد الخاصة، فهي ترتبط بغايات باب محدد من التشريعات التي تحقق مصلحة معينة من مصالح الناس والمقاصد الخاصة فيها أيضا جزئية ترتبط بحكم شرعي معين وقد اختلف الفقهاء والاصوليون في تحديد أنواع المقاصد العامة للشريعة، ولكنهم اتفقوا على خطوط عامة تدخل في اطار تحكيم العدالة وتحكيم الاخوة وحفظ الدين وحفظ النفس والعرض وحفظ النسل وحفظ المال وحفظ العقل وغيرها. و بما ان قضية المقاصد ترتبط بتحقيق المصالح ودرء المفاسد، فان الخشية من الوقوع في ملابسات الظنون الفردية التي تتجاذب الافراد، تجعلنا نحيل هذه القضية في المجالات الفردية الى قطع المجتهد فقط اما بالنسبة للمجال الاجتماعي و اوامر الامة فتحال الى ولي أمر الامة الشرعي؛ لتكون جزءا من اختصاصاته في عملية التقنين، وهي بالتالي مساحة مرنة في الشريعة ترتبط باجتهاد ولي الأمر وتشخيصه المصلحة التي تحقق مقصد الشريعة.كماسيأتي.
2- الأحكام الشرعية التي تحدد موضوعاتها الأعراف وأهل الخبرة، وهو ما يمكن ان نعبِّر عنه بتأثير الزمان والمكان في الاجتهاد ونوعية التأثير هذه لها مدخلية في موضوع المرونة لأن تأثير الزمان والمكان في موضوع الحكم الشرعي هو الذي يحدد مضمون الحكم الشرعي وشكله. ومن مظاهر ذلك اختلاف مصاديق المفاهيم من مكان لآخر، كطبيعة الاسراف والغنى و الاحترام واعداد معينة نتيجة التزاحم بين ضرورة تطبيق الحكم والآثار السيئة التي قد تنجم عن التطبيق في ظل ظروف معينة قاهرة واذا كان الحكم يرتبط بعمل الامة فلابد من ايكال تشخيص التزاحم وتقديم الاهم لولي الامر ايضا.
3- فتح باب الاجتهاد فياستنباط الاحكام الشرعية،وهي المساحة الأكثر مرونة في الشريعة نفسها، اي ان عملية الاجتهاد عملية بالغة الدقة وبحاجة الى نوع متميز من التخصص الذي لا يستطيع اي مكلف بلوغه، بل ولا يستطيع المجتهد نفسه ممارسته برأيه واستحسانه فالمجتهد إذا لم يعثر على دليل من مصادر التشريع فانه يرجع الى الاصول العلمية، في اطار منهجية لصيقة بالشريعة و مثال ذلك المسائل المستحدثة والجوانب التنظيمية الجديدة، سواء على مستوى فقه المرور والستعير والتعليم، وقضايا الاعلام والاتصالات والفنون والآداب وغيرها والحقيقة ان النصوص التي تركتها مصادر التشريع (تحديدا القرآن الكريم والسنة الشريفة) تتناول قضايا الواقع المرتبط بفترة الصدور، و تتناول أيضا الخطوط العامة للنظم الاسلامية، اضافة الى بعض الأحكام التي تستمر موضوعاتها مع الزمان والمكان والحال ان كل يوم يمر على البشرية يحمل معه قضايا وموضوعات جديدة، لاتعجز الشرعيّة مطلقا عن تحديد أحكامها، وذلك من خلال نافذة الاجتهاد، هذه المكرمة العلمية التي منحتها الشرعيّة للامة (من خلال مجتهديها)، لكي تبقى قادرة على اخضاع واقعها لأحكام الدين الحنيف. وبالطبع فان موضوع الاجتهاد يشتمل على تحديد دورالعقل في عملية الاستنباط، كادراك المصالح العامة أو ادراك التلازم بين احكامه وأحكام الشرع.
ومن البديهي أن يرفض الشرع المقدس ـ خلال ممارسة عملية الاجتهادـ القواعد الظنية التي لم يقم على اعتبارها دليل قطعي، بل يحدد الاجتهاد في اطار القواعد التي قام على اعتبارها دليل قطعي؛ لأن الشارع لايسمح للفكر البشري المحض ان يضيف من ذاتياته للاسلام. وهذا الامر دليل على دقة عملية الاجتهاد، وكونها لا تترك للمجتهد اختراع منهجية أو قواعد واصول غريبة عن جنس الشريعة، اي لا تفتح الباب على مصراعية للمجتهد بأن يجدد ويصلح ويرتق ويطور في الشريعة كيفما شاء، هذا فضلاً عن غير المجتهد، فذلك من باب أولى بأن لا يتدخل في هذه الامور التي ليست من اختصاصه.