إنسانية إنسان نضّر الله كل امرئ أحسن الفعل والتصرف، وأجاد النجع في حَبْك الصورة السلوكية الباهرة، والتي تنضح قيمًا سلوكية، تضوع في مراقي الكماليات الأخلاقية للجنس البشري عبر الهدي الإسلامي، والمرتكز عبر تقدير الإنسان للإنسان، لتجرُّده الإنساني نأيًا عن علائق يكون لها الأثر في تغيير إبرة البوصلة في تقييم الإنسان وتقديره، لتكون تلك العلائق هي ميزان الإنسان، ومبنى العلاقة والتواصل، فيتجرّد التقدير والاحترام لشخص الإنسان ونفسه، ويقحم في غياهب لا طائل لها عبر التقييم والتقدير المنبثق مما يُبَوِّء من مكانته ويمتطي من منصب أو يحوز من مال ويغرق فيه، فعندما يتم تشخيص الاحتفاء بالإنسان وإضفاء صبغة التقدير والاحترام وفق تلك المعطيات فقط، فهو إيذان بانحدار قيمي سلوكي في المجتمع، وانحراف خلقي عن الهدي الإلهي في هذا المسلك، فيوم أن رزح التقدير للإنسان وتعلق بمجرد مكونات قد تندثر يومًا، أو تنزوي عن مكانتها، حينها يضيع التقدير الزائف، ويطيش أمام صرامة الواقع؛ إذ تتكسر أمام تهيج صخور الحقيقة، فتردمها وتخنقها في مستنقع آسِنٍ لا يتملّص منه أبدًا.
إن تقدير الإنسان لما يؤول من مكانة ومنصب مطلب حياتي هام، لا يغيب عن مدرك لوقع المعاش الذي نتفيَّأ حقيقته؛ فالكثير يحب أن تُواكِب في التعامل معه ما بلغه من شأن، وهو حقّ لا تثريب فيه، وإنما الخطاب- هنا- ينصرف لمن يحطّ من الشأن الإنساني في التقدير، فتغيب معالم الشخص وتتيه أمام هامة المنصب وقامة المكانة، فمن تبوأ منصبًا فتحت له أبواب الدنيا قاطبة، وغيره يتوغل في لُجَّة من الدوامات المدلهمة المؤلمة، وكان جرمه أن إنسانيته لم تكفل له حق التقدير، رغم أننا أمة { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فطلائع هذه الآية الكريمة تحيط بالكرامة والتقدير لكافة الجنس البشري متوائمة مع {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، فالإكرام عمومًا لأطياف الجنس البشري كافَّة، وإنما غاية الإكرام والتقدير لمن بلغ في التقوى مبلغه، وانطلق يجول في علاه، ويصول في رضاه، فالتقدير والتبجيل والاحترام ولِين الجانب وحسن التعامل تغمر معالم الحياة حينما يتمّ التعامل بين الإنسان وأخيه الإنسان، ومباني الحياة العالمية تضرب عروقها لتبلغ عنان السماء تتم وفق هذا الجانب وتسير على ركابه، فقد يكونون "شُعْثً غُبْرًا لا يُعْرفون ولا يُؤْبَه لهم، ولكن لو أقسم أحدهم على الله لأبره".
عندما يشيع هذا المسلك المرغَّب، والتصرف المُحَبَّب، يتبدَّد لنا ظلام كثير من المثالب، وتستر عورات لا زِلْنا ننوء منها ونمتعض، من فَشْو الطبقية والعنصرية، وانفصام الوحدة وانثلام الرؤية، وانقطاع قنوات الاتصال والتعاون، فكم من مزالق انجرفنا معها وكان أسُّها غياب الإنسانية في التعامل والتصرف، فظلم بهذا الفردية جنس البشرية كافة، ورغم أن الإنسان الذي يجحف بهذا الأمر لم يُعْتَق من بشريته، وحيال ذلك لم يزل يتخبط في غلوائه، ويشتّ في عدد من تعاملاته فيتناقض ويناقض، وكل هذا؛ لأنه لم يوحد الرؤية على صراط واحد للتقدير والتعامل، فيصدم في لحظات المفاجأة ويحتار معها كل حيرة، ولو بني كل هذا على سواسية الإنسان والتقدير للفئام من المجتمع على هذه الأسس والمعطيات، لكان خيرًا على خير، وفلاحًا لرشاد تنتشي به الأمة مراقي الكمال الخلقي، وتعيد بها سيرتها الأولى، فهي عماد القيم؛ التعامل والعلاقة بين الناس مردودًا لجنسهم، فتتم المساواة والعدالة في كل الأمور.
فإن بناء هذه الرؤى على التقدير والاحترام لشخص الإنسان في المقام الأول؛ ضمانة للحفاظ على الحقوق ومسلكاً من مسالك الحق والقسط، وقد أمرنا بكل ما يتصل بالعدل ويقود إليه ويؤول {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، وهل من نعمة أعظم من أن تسود المساواة رسم الحياة ونهجه، بَلْه ويفلح هذا الجانب في خلق التواصل، وتقريب الرؤى في حيز الأفق المشترك العام، فترقب القضايا برُمَّتها من هذا الجانب، وتحاك الأحداث الأممية- عند شيوع هذه النظرة- بما يتواءم وذاك الفكر، وتقوم محاكاة لهذه العلاقة، فتتسم الأمور بحلول عميقة، لها دلائلها في حراك المجتمع، وتماسكها القوي، ومما يجلو في الأفق عدد من المشتركات كان الدافع لها شخص الإنسان ذاته، وما ذاك عنا ببعيد، فالمقاصد الشرعية الخمسة: (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، مقاصد إنسانية عالمية تتحفز للحفاظ على حياة الإنسان، وصيانتها في بوتقة الكرامة التي بوأها الباري- سبحانه وتعالى- إياه، وهو ما يكشف ضرورة أن تنمى العلاقات بين الإنسان في المقام الأول على الشخصية الإنسانية ذاتها، فهي مساق الهدف، والغاية الأولى، ولا يضير بعدها ما يخلفها.
إن الولوج في سيرة إمام الهدى صلى الله عليه وسلم، والتنسم من عبقه الكريم والنهل من معين هديه القويم، في بهي أقواله، وبديع أفعاله، والتوغل في شيء من حيثياتها، يكشف عمقًا حياتيًا، ورسمًا بهيجًا لمعالم حياتية، تمتشق سلم الحفاوة والفخر، والزهو بهذه المعطيات الغنية ،فـ(الناس سواسية كأسنان المشط)، فبهذا النهج يتم التعامل، ليؤول إلى قمم التكامل، وتسير لمصاف التفاعل والتماثل مع القيم الإلهية والنبوية، وحسبنا من هذا كله {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.
الموضوعالأصلي :
إنسانية إنسان المصدر : مــ ـعهد ســـ ــماء المغرب