[size=16]يتخذ مفهوم الحقيقة معاني و دلالات مختلفة و متعددة بتعدد الحقول المرجعية و اختلافها ففي التمثل اليومي المشترك يرتبط مفهوم الحقيقة بمعنيين : فمن جهة يكون الحقيقي هو الصادق الذي يتمتع بصفة الحق ، و من جهة أخرى يكون الحقيقي هو الواقعي . و إذا تأملنا هذه المعاني فإننا سنجدها متناقضة لأن الخطأ والكذب لا يمثلان الحقيقة و بالتالي ليسا واقعيين و هذا غير ممكن لأن الكذب يتمتع بوجود واقعي لأنه يترك آثارا ملموسة على العلاقات الإنسانية كما أن المظاهر الخداعة و المزيفة التي نعتقد أنها تمثل الحقيقة هي في حد ذاتها تخفي الحقيقة كجوهر .و في الحقل اللغوي يحيل مفهوم الحقيقة على كل ما هو ثابت و يقيني فالكلمة الثابتة عند اللغويين تكون حقيقة وإذا ما تغيرت أصبحت مجازا لا يحيل على الحقيقة إلا إذا تجاوزنا ظاهر الكلمة و بحثنا عن باطنها .وفي مجال الفلسفة كان التركيز منصبا على البحث عن علاقة الحقيقة بالواقع . لذلك كان معناها محكوما بهذه العلاقة ، غير أن الحقيقة في الفلسفة المعاصرة ارتبطت بالفكر واللغة . فالحقيقة تكون كذلك إذا ما تطابق الفكر مع ذاته أو إذا ما تناسقت الكلمة في سياقها مع باقي الكلمات المرتبطة بها فحيث لا يوجد فكر يحكم على الواقع و لغة تعبر عنه لا يكون هناك معنى للحقيقة.
الإشكالية : الإشكال المركزي في مفهوم الحقيقة مرتبط بموقعها في الفكر و اللغة أم في الواقع خارج الفكر و اللغة ؟ ما علاقة الحقيقة بالواقع ؟ هل هي صورة الواقع منعكسة في الفكر و معبر عنها باللغة أم هل هناك حقيقة خارج الفكر واللغة أم انها نتاج لهما ؟ ويتفرغ عن هذا الإشكال الاول إشكال التداخل بين مفهوم الحقيقة ومفهوم الواقع .هل الحقيقة هي الواقع ذاته ، أم مطابقة الفكر للواقع ؟ وفي كلتا الحالتين تطرح إشكالات أخرى متصلة و مرتبطة بهذا الإشكال . هل الحقيقة ذاتية أم موضوعية ؟ و في كلتا الحالتين هل هي واحدة أم متعددة ؟ ثم هل هي مطلقة أم نسبية ؟ ثم هل يمكن الحديث عن الحقيقة بمعزل عن أضدادها و مقابلاتها (الكذب ،الخطأ، الوهم....) أم هي متضايفة و متلازمة معها ؟ هل الحقيقة من شأن العقل وحده أم تتدخل فيها الأهواء و الرغبات و الغرائز ؟ ثم كيف تفرض الحقيقة نفسها ؟ فهل للحقيقة قيمة معرفية أم أخلاقية أم نفعية بالنسبة للإنسان ؟
II - الحقيقة و الواقع
يتعلق هذا المحور بالبحث عن طبيعة العلاقة بين الحقيقة كفكر والواقع كمجموعة من البنيات المادية، فإذا كانت الحقيقة تتضمن معاني الثبات والاستقرار وهي في دلالتها الكلاسيكية مرادف للواقع ، و الواقع كل ما هو حاصل وثابت أو ما يوجد موضوعيا خارج الفكر والادراك أي يتصف بالتغير والصيرورة فكيف يمكن للحقيقة أن تطابق واقعا متحركا ؟ أو بصيغة أخرى أين توجد الحقيقة هل في الفكر أم في الواقع ؟
1 - الحل الأفلاطوني :
باعتبار التحديدات السابقة يرى أفلاطون أن الحقيقة بما هي ثابتة فإنها تستلزم /تطابق واقعا هو الآخر ثابتا. و الواقع المقصود هنا ليس هو الواقع المادي المحسوس و العيني لأنه في نظره ليس حقيقيا و إنما هو مجرد ظل أو شبح أو نسخة لواقع مفارق هو عالم المثل : عالم الحقائق الخالدة و المطلقة، و يتميز عالم المثل باللامادية و بالتالي الثبات والكمال بينما يتميز عالم الظلال بالمادية و بالتالي النقص و التغير ، الأول حقيقي يدرك بالعقل والثاني وهمي يدرك بالحواس . وتتجلى ثنائية أفلاطون لحقيقة الانسان حيث يميز فيه بين جسد وضيع وفان وروح من طبيعة إلهية و تصنيفه للناس إلى صنفين عامة الناس وهم مقيدون بحواسهم وخاصتهم وهم الفلاسفة الذين يستطيعون تكسير قيود الحواس و تجاوز عالم التجربة وذلك باستعمال العقل وممارسة التأمل وثنائية أفلاطون تتجلى كذلك في تصوره للمعرفة حيث يميز بين المعرفة الظنية المرتبطة بالحواس والمعرفة اليقينية المرتبطة بالعقل و بناء على تصور الثنائي للكون والانسان والمعرفة فإنه يقول بمرحلتين في منهجه الجدلي : جدل صاعد ( البحث عن الحقيقة ) و جدل نازل (تبليغ الحقيقة) و بذلك إن إدراك الحقيقة يقتضي التخلي نهائيا عن العالم المادي المحسوس وعدم الاهتمام بمشكلاته الجزئية وإعمال العقل (التأمل) لبلوغ الحقيقة التي توجد في عالم المثل و تتصف بمواصفاته.إن هذه الثنائية : عالم المثل / عالم محسوس تؤدي في نظر أرسطو إلى استحالات :استحالة صدور عالم محسوس عن عالم مثالي مجرد ، روحي ، ثم استحالة صدور المتغير عن الثابت والزائل عن الخالد ثم كذلك مفارقة الحقيقة لموضوعها إذ كيف يكون الشيء هنا وحقيقته هناك هذه الهوة الوجودية بين الشيء وظله هي ما حاول ارسطو ردمه
2 - الحل الأرسطي :
لردم هوة أفلاطون و ربط الأشياء بحقائقها ولتجاوز هذه الاستحالات تخلى أرسطو نهائيا عن فكرة عالم مثالي مفارق واعتقد أن العالم المادي المحسوس هو العالم الوحيد الموجود والحقيقة لا توجد خارجه وحل مسألة علاقة الحقيقة بالواقع تقتضي النظر إلى الثابت و المتحول باعتبارهما متداخلين و متلازمين و مترابطين و يشكلان وحدة يكون فيها الثابت هو الحامل و السند للمتغير فالواقع الحقيقي الثابت محايث Immanent للواقع الحسي المتغير إنه الموجود بما هو موجود : الجوهر والماهية الثاوية خلف الأعراض هكذا تنسحب المثل لحساب الجواهر و تستحيل الظلال أعراضا (واقع حسي مباشر) غير أن الاعراض عند أرسطو ليست كما هو الشأن عند أفلاطون يجب طرحها و تجاوزها بل واقع فعلي يمثل الوسيط الضروري الذي لا غنى عنه للعقل لاستخلاص /استنباط الوصول إلى الحقائق جواهر الأشياء بواسطة التجريد العقلي .
نلاحظ أن التصور الارسطي يحتفظ ببعض مكتسبات التصور الافلاطوني الذي يرى أن الحقيقة هي واقع موضوعي ثابت يدرك بالعقل لكنه خلافا له يعتبر الحقيقة محايثة للواقع المحسوس و من ثمة يعيد الاعتبار للحواس باعتبارها أداة ضرورية مساعدة للعقل في إدراك الحقيقة .غير أن هذه الروح الواقعية في فلسفة أرسطو لا تقدم ضمانا كاملا لإدراك الحقيقة اليقينية الكاملة و المطلقة ما دامت الحواس قائمة كوسيط لبلوغ الحقيقة . فكل محاولات العقل الارسطي تبقى محفوفة بالشك و متهمة . فكيف السبيل إلى الحقيقة اليقينية و المنزهة عن الشك ؟
3 - الحل الديكارتي : لا يؤمن ديكارت بفكرة تأسيس الحقيقة على الحواس لأن الحواس في نظره تخدعنا و تقدم لنا حقائق ظنية ينبغي تلافيها رغم أنه لا ينكر وجود العالم الحسي إلا أنه لا يعتبره منطلقا مضمونا لاكتشاف الحقيقة لأن الحقيقة في نظره من شأن العقل وحده وهو ما يقبله العقل تلقائيا دونما حاجة إلى برهان .إن الحقيقة في الأصل ليست واقعا بل أفكارا في العقل ولما كانت الحدود بين الصادق والكاذب من الأفكار ليست بينة منذ البداية فإن الطريق إلى الحقيقة في نظر ديكارت هو الشك المنهجي ، والشك لا يتطلب خروج العقل من ذاته إلى العالم الخارجي بل يشترط فقط العودة إلى الذات لإعادة النظر (مسح الطاولة) في كل ما لديه من أفكار بواسطة الشك المنهجي (بعضها وراثي و الآخر مطبوع بالفطرة ) و عملية الشك تنتهي إلى أفكار لا تقبل الشك ألا وهي الأفكار البسيطة الفطرية في العقل ( البديهيات : الهوية عدم التناقض الثالث المرفوع ..) وهي أساس اليقين فليس تمة حقيقة إلا إذا قامت على هذه المبادئ والتي تدرك بواسطة الحدس العقلي ، وانطلاقا منها يستنبط العقل بواسطة الاستدلال كل الحقائق المركبة والممكنة يظهر أن العقل هو مبدأ ومنتهى الحقيقة . لكن ما علاقة الحقائق المدركة بالعقل بالواقع الموضوعي ؟ أمام معقولية الحقيقة (الخاصية الفكرية و المتمثلة في البداهة و الوضوح العقليين ) فإن مطابقتها للواقع يدفع إلى طرح السؤال أي واقع تكون الحقيقة مطابقة له ؟ أهو المشكوك فيه (المادي) أم الخفي و كيف يطابق الفكر واقعا خفيا ؟ وكيف يمكن التحقق من هذه المطابقة ؟ يرى ديكارت انطلاقا من فكرة الضمان الإلهي أنها علاقة تطابق فما دام العقل بفطريته والواقع بخصائصه وقوانينه الموضوعية يصدران معا عن أصل واحد (هو الله ) فإن وحدة مصدرهما هي ضامن تطابقهما وبذلك اعتقد ديكارت أنه قد حصن الحقيقة داخل قلعة اليقين التام (العقل) و لم يعد هناك مجال للشك ما دام قد قطع الطريق نهائيا عن الحواس.و لكن هل تكون الحقيقة عقلية بحتة و كيف يمكن للعقل أن يدرك حقيقة الواقع دون الاتصال به مباشرة ، إنه جانب غير معقول في عقلانية ديكارت سيحاول كانط معالجته
4 - الحل الكانطي : يمكن القول على أن الحلول السابقة رغم اختلافها بصدد مسألة الحقيقة فهي تلتقي في خاصيتين على الاقل ,إنها تنظر إلى الحقيقة من زاوية واحدة إما موضوعية محضة مثل افلاطون و ماهيات ارسطو أو ذاتية محضة الافكار الفطرية الديكارتية وأنها تنظر إلى الحقيقة كموضوع جاهز (واقعيا أم عقليا) مكتمل ومنته . وسواء كانت مثالا أم ماهية أو بديهية فإنها في كل هذه الحالات للاكتشاف إما بواسطة الجدل او التجربة او الحدس إلا أن كانط المتاثر بالتجريبين وبمنهج البحث السائد في عصره : المنهج التجريبي في فزياء نيوتن وغاليلو ...) سيقلب النظرة إلى الحقيقة فالحقيقة كانت عند كانط ليست لاذاتية ولا موضوعية وليست معطاة أو جاهزة خارج الفكر والواقع ولا داخله بل إنها منتوج (بناء) إنها حاصل تفاعل الفكر والواقع , يبنيهما العقل انطلاقا من معطيات التجربة الحسية (مادة المعرفة ) التي يضفي عليها الفهم الصور والاشكال (صورة المعرفة) فالحقيقة تستلزم الـــمادة والصورة ، الواقع والفكر معا . هكذا مع كانت اصبحت الحقيقة متعددة ونسبية وغير معطاة فلم تعد مطابقة الفكر للواقع بل انتظام معطيات الواقع في أطر أو مقولات الفكر , وهي نظرة ستتغير بدورها بموازاة مع التطورات التي ستطرأ على الفكر العلمي و الفلسفي خلال القرن 19 و ما بعده
5 - التطور العلمي للحقيقة : لقد ساهم التقدم العلمي في تغيير فكرة الحقيقة التي أصبحت تقوم على النسبية والموضوعية أما النسبية فتتمثل في ارتباط المعرفة بموضوعها وبأدوات البحث المستعملة فيها ومستوى تطور النظريات العلمية التي تبقى بدورها نسبية و قابلة للتصحيح بشكل مستمر. أما موضوعية الحقيقة العلمية فتقوم على نوعين من الضرورة العقلية : ضرورة صورية (الصياغة المنطقية والرياضية للنظريات العلمية ) وأخرى تجريبية (طريقة التحقق من صحة النظرية
6 - أطروحة هايدجر: الحقيقة في نظر هايدجر تتخذ طعما آخر ومفهوما جديدا إنها في نظره توجد في الوجود ما دام هذا الوجود لا يتمكن من التعبير عن ذاته و الكشف عن حقيقته فإنه يحتاج إلى من يقوم بذلك والانسان هو الكائن الوحيد الذي تتجلى فيه حقيقة الوجود ، لا لأنه يفكر وإنما لأنه ينطق و يتكلم ويعبر . فالانسان في نظر هايدجر نور الحقيقة في ظلمات الكينونة ، فالحقيقة ليست فكرا ينضاف إلى الوجود من الخارج كما ادعى ديكارت و كانت، و إنما هي توجد في صميم الوجود نفسه و ليس الانسان سوى لسان حال الوجود أو كلمة الوجود المنطوقة ، الأمر الذي يدل على أن الحقيقة هي فكريطابق لغة معينة تعبر عن وجود معين أي كشف للكائن وحريته، أي استعداد الفكر للانفتاح على الكائن المنكشف له ، و استقباله إذا ما تحقق التوافق و الانسجام.