تقديم: يمكن القول من وجهة نظر فلسفية عامة أن السعادة هي "حالة إرضاء تام للذات،يتسم بالقوة والثبات، ويتميز عن اللذة للحظيتها وعن الفرح لحركيته". من هنا يمكن التساؤل: ماهو الجانب الذي سنسعى إلى إرضائه لتحقيق سعادة الإنسان؛ هل هو البدن أم العقل أم الروح؟ وبمعنى آخر: هل السعادة حسية أم عقلية أم روحية /وجدانية؟ وفي مستوى آخر يمكن التساؤل: هل السعادة فردية أم أنها لا تتحقق إلا في إطار الجماعة؟
- هل السعادة إرضاء للبدن أم للعقل أم للقلب؟
- السعادة إرضاء للبدن:
</LI> يرى دعاة مذهب اللذة أن نشدان اللذة ودفع الألم هو الغاية الأولى والأخيرة من وجود الإنسان، وهكذا يرى أرستبوس أنه بازدياد عدد اللذات تزداد خبرتنا بالسعادة، ومن ثم يجب اغتنام الفرص لاقتناص أكبر عدد ممكن من اللذات الحاضرة. إن اللذة الحسية هنا، هي معيار لتحديد كل القيم الإنسانية، بما ي ذلك قيمة السعادة. يميز المفكرون المسلمون تبعا للتوجه الأفلاطوني-الأرسطي في الوجود بين النفس والجسد، فيتم تمجيد النفس والعقل واحتقار الجسم والبدن، وفي هذا السياق تم اعتبار السعادة عقلية ترتبط بكل ما يحقق اللذة العقلية من معرفة وعلم: يرى الرازي أن اللذات العقلية أشرف من اللذات الحسية، لأن هذه الأخيرة لا تخص الإنسان وحده بل يشترك فيها مع الحيوان الذي قد يتفوق عليه في تحصيلها، ثم إن اللذة الحسية هي مجرد دفع للألم، فهي لذة مؤقتة تنتهي بعد تحقيق الإشباع، لذلك كانت السعادة الدائمة من طبيعة عقلية تكمن في تحصيل العلوم والتحلي بالأخلاق الفاضلة. الكمال الخاص بالإنسان كمالان: الكمال النظري والذي يكون بالقوة العالمة والتي يشتاق بها الإنسان إلى المعرفة والعلوم، والكمال الأخلاقي الذي يكون بالقوة العاملة التي يستعملها الإنسان في تنظيم الأمور وحسب تدبيرها. أما الكمال الأول فمنزلته منزلة الصورة بينما الكمال الثاني منزلته منزلة المادة، ولا يتم أحدهما بدون الآخر، لأن العلم مبدأ، والعمل تمام، وهذين الكمالين هما طريقا السعادة القصوى. يرى الفاربي أن الفلسفة هي السبيل لتحصيل السعادة لأنه بها يتم اكتساب القدرة على التمييز، وإدراك الصواب، والتعرف على الحق فيتم اعتقاده، وعلى الباطل فيتم اجتنابه، وبذلك تستكمل النفس حقيقتها وتصل إلى السعادة القصوى. يرى المتصوفة أن الأقيسة العقلية التي يستخدمها الفلاسفة غير قادرة على إدراك نور الحق وجلاله، ومن تم فهي غير موصلة للسعادة الحقة، وهكذا فالإلهام والإشراق هما طريقا السعادة ويتمان في القلب لا في العقل. وفي هذا الإطار يرى ابن عربي أن القلب هو السبيل المؤدي إلى السعادة وهو من رحمة الله التي أودعها في مخلوقاته، وهذه السعادة تتحقق عندما يتمكن العارف من مشاهدة تجلي الحق في مرآة الوجود، فيفيض قلبه نورا بحيث لا يسع هذا القلب شيئا آخر غير الله. \ يبدو أن جوهر السعادة هو حسن التدبير والاعتدال، وذلك بتحقيق متطلبات الجسد والعقل والقلب جميعا دون إغفال أي جانب من هذه الجوانب، على أساس أن يكون ذلك في إطار التوازن والمعقولية بحيث يكون العقل هو المدبر الفعلي من أجل تحقيق كل تلك المطالب.
- هل السعادة تدبير للفرد أم للمدينة؟
لقد أكد الفلاسفة المسلمون على الاختيار العقلاني والاجتماعي والمدني في تحقيق السعادة، وذلك من خلال تحقيق شرطين أساسيين، هما: إن الإرادة في ارتباطها بالسعادة تعني أساسا قدرة الإنسان على الاختيار والتحكم في أفعاله وتدبير أحواله. وهكذا فالسعادة ليست وليدة الصدفة والاتفاق، وإنما تحصل بواسطة العمل والجهد والبرمجة، وفي هذا الصدد يذهب مسكويه إلى أن السعادة لاتتأتى إلا عن صناعة وتأديب، وهو ما يضفي عليها طابعا تربويا ومؤسساتيا. يرى الفارابي أن الإنسان يحتاج في حياته إلى التعاون مع أبناء جنسه من أجل تحقيق حاجاته اليومية ومن تم تحصيل سعادته، فبلوغ هذه الأخيرة يتطلب تضافر جهود عدة أفراد في إطار ما أسماه الفارابي بالتدبير المدني الذي يؤدي إلى سعادة الأعمال والوظائف بين الناس تبعا لطبائعهم، وذلك بهدف تحقيق الخير الأفضل والكمال الأقصى الذي لا ينال إلا في المدينة الفاضلة. \إن الطابع الجماعي الذي تأخذه السعادة عند كل من الفارابي ومسكويه، هو رفض ونقد لموقف المتصوفة الذين يختارون العزلة والخلوة بحثا عن سعادة فردية تتم في إطار من الزهد والابتعاد عن الناس. وهكذا يربط مسكويه السعادة بالفضائل الأخلاقية التي لا تتحقق إلا بمعاشرة الناس والاختلاط بهم، وفي هذا الصدد يقول مسكويه: "ليست الفضائل أعداما، بل هي أفعال وأعمال تظهر عند مشاركات الناس ومساكنتهم، وفي المعاملات وضروب الاجتماعات". |