يومان قبل يوم الاقتراع الخاص بالانتخابات الجزئية، صرح صلاح الوديع مرشح الهمة في آسفي لوسائل الإعلام قائلا بأنه يتوقع اكتساح حزب الأصالة والمعاصرة لجميع المدن التي ترشح فيها. وقال في تصريح لمجلة «لوجورنال» بأن «نوعا من الصحافة كتبت بأن المواطنين تعاملوا معنا بالرفض، وهذا مجرد كذب، والعكس هو الذي وقع. فقد فهمت أن المغاربة مستعدون للذهاب للتصويت وتحمل مسؤوليتهم. يكفي فقط أن نقول لهم الحقيقة وأن نقدم مصلحة الوطن على مصلحة الحزب». مساء الجمعة ظهرت «الحقيقة» التي يتحدث عنها صلاح الوديع، ولم تكن سوى احتلال هذا الأخير لذيل اللائحة في آسفي، مسقط رأسه حيث ترشح. أما في مراكش جاب أحد باعة الخضر في أحد أسواق مراكش عن سؤال بخصوص المرشح الذي صوت لأجله في الانتخابات الجزئية الأخيرة، فقال : - صوتنا على ولد العروسية، هوا بعدا إلى حتاجيناه تانصيبوه فالقهوة...
وحول سؤال عن سبب عدم تصويته على حزب التراكتور قال بلكنته المراكشية الساخرة : - وعلاه فين عمرك شفتي التراكتور تايدخل للمدينة... هذا يذكرنا بتلك الحكاية التي تقول أن الحسن الثاني كان يتجول في شوارع مراكش وسأل أحد المراكشيين عن عمله فأجابه المراكشي : - خدام فالمرسى نعاماس... فاندهش الملك من جوابه وقال له مستنكرا : - وعلاه مراكش فيها المرسى ؟ فأجابه المراكشي على الفور : - وعلاه أسيدنا مراكش فيها الخدمة... عندما جاء فؤاد عالي الهمة إلى مراكش بجيشه الجرار راكبين سيارات «كات كات كيا»، واخترقوا الأحياء الفقيرة تاركين وراءهم «عجاجة» كثيفة من الغبار، فقد كان هذا الأخير يوقع فشله الانتخابي مسبقا. فالشعور الذي تركته هذه القافلة من السيارات الفخمة في نفوس فقراء أحياء مراكش، هو أن الهمة وصحبه جاؤوا إلى مراكش لكي «يتفطحو» عليهم بسياراتهم «الدوبلفي»، في الوقت الذي يعجز أغلب هؤلاء المواطنين عن إنهاء شهر رمضان بسبب تكاليفه الباهظة. واليوم يحصد الهمة هزيمة نكراء بعد فشل مرشحيه في الفوز بمقعد برلماني في الدوائر التي ترشحوا فيها. وخطورة هذا الفشل توجد في كون الهمة شيد حملته الانتخابية في جانب كبير منها على أكتاف صداقته مع الملك. ففي مراكش عندما خطب في الجماهير التي حجت إلى إحدى قاعات السينما ختم كلامه بقوله أنه سيذهب لأن الملك ينتظره. وفي تزنيت قال أحد المتحدثين باسم حزب الهمة للجمهور أن تصويته على التراكتور إعلاء لكلمة سيدنا. وفي الوقت الذي كان يجب أن يظل الملك بعيدا عن هذه الحسابات الانتخابية استغل الهمة صداقته وقربه من الملك في الترويج لنفسه ومرشحيه ومشروعه السياسي. وفي كل الحوارات الصحافية التي أعطى الهمة كان يركز على أنه جاء ليدافع عن مغرب محمد السادس وعن الإسلام المغربي المتسامح والمنفتح. وذهب إلى حد القول بأنه جاء إلى مراكش لكي يطهرها من المفسدين الذين يسيرونها. والغريب في الأمر أن أحدا لم يرفع دعوى قضائية ضده بتهمة القذف والسب العلني، مع أن نوبير الأموي ذهب إلى السجن بسبب التهمة ذاتها عندما وصف أعضاء الحكومة بـ«رباعة الشفارة» في جريدة «الباييس». ولعل الدرس الذي يجب أن يستنبطه الهمة وصحبه من هذه التجربة الفاشلة التي افتتحوا بها مغامرتهم السياسية هو أن أمثال ولد العروسية هم الذين سيفوزون بالانتخابات في المغرب اليوم وغدا. والسبب واضح، فقد أخذ هؤلاء مكان الدولة وأصبحوا يقدمون للمواطنين المحتاجين خدمات أساسية كان من المفروض أن تقدمها المؤسسات العمومية. وبما أن الدولة عندنا قدمت استقالتها من مهامها الرسمية واكتفت بتحصيل الضرائب والمكوس، فقد استولى أمثال ولد العروسية على هذا المجال وأصبحوا يعرضون خدماتهم المجانية على المحتاجين، مقابل اصطفافهم إلى جنبهم في المعارك الانتخابية الحاسمة. عندما ركب ولد العروسية على صهوة فرس وخرج يتجول في أزقة مراكش بعد انتصاره على مرشح الهمة، فإنه كان يريد أن يعطي لجمهوره صورة الفارس الذي يريد أن يتشبه بصورة «روبن هود». الفارس الأسطورة الذي كان يهاجم قوافل الأثرياء وينهب أموالهم لكي يعيد توزيع الثروة على الفقراء. وعندما نتأمل جيدا الطريقة التي استطاع أن يصل بها بعضهم إلى مناصب سياسية رفيعة كعمادة المدن مثلا، نكتشف أن «مدرسة ولد العروسية» هي المدرسة الوحيدة التي استطاعت أن تصمد في وجه كل القوانين الانتخابية التي وضعتها وزارة الداخلية. فشباط في فاس ينهج نفس السياسة، وقد استطاع أن يرتقي سلالم السلطة إلى أن وصل إلى عمادة المدينة. وأصبح بفضل ثروته الكبيرة يتعهد بالرعاية و«المصروف» عائلات كثيرة في أفقر الأحياء الفاسية. أما في الرباط، فالعمدة البحراوي لديه في كل أحياء الرباط الشعبية ما يشبه «العريفات» اللواتي يحتاج «معارفهن» خلال الحملة الانتخابية. لقد أصبحت الانتخابات في المغرب شأنا خاصا بالأحياء الشعبية، أي بالطبقات المسحوقة التي ترى أن الذهاب إلى مكاتب التصويت سيجلب لها وظيفة لابن عاطل، أو رخصة لبناء غير مشروع، أو مجرد مبلغ مالي بسيط يتدبر به أمره لأسبوع أو أقل. وقد رأينا كيف كان يتطوع بعض المرشحين في توفير «الروج» في بعض الأحياء الشعبية لشباب الحي مقابل العمل معهم في حملاتهم الانتخابية والتصويت لصالحهم. ولعل أكبر دليل على أن الانتخابات أصبحت شأنا خاصا بالطبقات الدنيا، هو أن صندوق مكتب التصويت بحي «ليفيرناج» الراقي في مراكش لم يسجل أي صوت. هكذا لم يعد يذهب إلى مكاتب التصويت سوى المعنيين بالأمر. أي الذين لديهم مصلحة معينة في التصويت لصالح هذا المرشح دون الآخر. ففي ظل استقالة الدولة من تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين المسحوقين لم يعد أمام هؤلاء سوى التعويل على أمثال ولد العروسية وشباط والبحراوي. لأن هؤلاء «الممثلين» يكفنون الموتى في الأحياء الشعبية ويرافقون ذويهم إلى المقبرة ليطمروا موتاهم تحت التراب ويتكفلون بعشاء الميت، ويدفعون مستلزمات الأعراس، ويختنون الأطفال ويشترون لهم الملابس وأدوات المدرسة، ويتبرعون بخرفان عيد الأضحى، ويساعدون المرضى على ثمن الدواء وإجراء العمليات الجراحية. وطبعا كل هذه الأشياء ليست لوجه الله، وإنما لوجه صندوق الاقتراع. وطبعا كل هذه المصاريف الخرافية تحتاج إلى مصادر لتأمينها. وهنا يكمن سر هؤلاء المنتخبين الذين يعوضون الدولة ويتكفلون بالفقراء مكانها، ويضمنون الأمن أو يتسببون في نقصه حسب طبيعة علاقتهم بولاة الأمن الذين ترسلهم وزارة الداخلية إلى مدنهم. وفي مقابل كل هذا ماذا يقترح الهمة ومرشحوه، إنهم يقترحون تطهير المدن التي سينجحون فيها من المفسدين الذين يسيرونها. يعني أنهم يقترحون النظريات السياسية المجردة والكلام المنمق حول الديمقراطية والحداثة ومغرب محمد السادس، على مواطنين نصفهم أمي ويحتاجون إلى من يصرف عليهم هنا والآن، لا إلى من يعطيهم «الناب والقرناب». ولذلك اخترع المغاربة لازمتهم العميقة التي تقول «الهضرة ماتشري خضرة». وقد كان على صلاح الوديع أن يفهم «رأسه» عندما وصله أول حجر قذفه باتجاهه مواطنون غاضبون في آسفي عندما خرج يقوم بحملته الانتخابية. كما كان على خديجة الرويسي أن تفهم «رأسها» عندما اعترضت سبيلها في أحد أحياء مراكش الشعبية عصابة مسلحة بالسيوف وهددوا بتقطيعها إلى أطراف إن هي تجرأت على دخول الحي لتقوم بالحملة لصالح زميلها بلكوش. هذا هو المغرب الحقيقي الذي يعيش فيه المغاربة كل يوم، وليس مغرب الصالونات الرباطية التي يجتمع فيها الهمة وصحبه لكي ينظروا للمستقبل «الديموتراكتوري» للمغرب. وبعد هذه الهزيمة السياسية التي تلقاها الهمة وحزبه، لم يبق أمام المراكشيين سوى أن يتمنوا له حظا سعيدا، وهم يقولون له تحيتهم الوداعية المشهورة: - «تهلا ودير مظلة».