مجموعة من علماء السنّة ، حينما نقلوا رسالة عمر المذكورة، اعتبروها بدء لتاريخ تدوين الحديث، واعتبروا أن العام الأخير من القرن الأول الهجري أو العام الأوّل من القرن الثاني الهجري هو عام إنطلاقة تدوين الحديث(39).
إلا أن العلاّمة السيد حسن الصدر (رحمه الله) يرد على هذا الرأي بالأدلة والسندات التاريخية حيث يقول:
(وقد وهم الحافظ الجلال السيوطي في كتابه (تدريب الرواي) حيث زعم أنّ ابتداء تدوين الحديث وقع في رأس المائة. قلت: كانت خلافة عمر بن عبد العزيز سنتين وخمسة أشهر، ولم يؤرخ زمان أمره، ولا نقل ناقل امتثال أمره بتدوين الحديث في زمانه، وما ذكره الحافظ ابن حجر من باب الحدس والاعتبار، لا عن نقل العمل بأمره بالعيان، ولو كان له عند أهل العلم بالحديث أثر بالعيان لما نصوا على أنّ الأفراد لحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان على رأس المائتين كما اعترف به شيخ الإسلام وغيره. قال: فأوّل من جمع الآثار ابن جريج بمكّة وابن إسحاق أو مالك بالمدينة والربيع بن صبيح أو سعيد بن عروبة أو حمّاد بن سملة بالبصرة، وسفيان الثوري بالكوفة والأوزاعي بالشام وهيثم بواسط ومعمر باليمن وجرير بالرّي وابن المبارك بخراسان.
وكذلك الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ نصّ: إنّ أوّل زمن التصنيف وتدوين السنن وتأليف الفروع بعد انقراض دولة بني أمية وتحوّل الدولة إلى بني العباس) أ هـ(40).
وتأييدا لرأي السيد الصدر (رحمه الله) نقول: إن ابن حجر نفسه، قد ذكر أقوالا مختلفة حول أوّل من دوّن الحديث. فتارة يدّعي أن أوّل من ألّف في الحديث هو الربيع بن صبيح(41)، وتارة أخرى يرى أن أول من كتب في الحديث هو ابن شهاب الزهري الذي دوّنه بأمر من عمر بن عبد العزيز(42).
وفي موضع آخر يدّعي أنّ أوّل من دوّن الحديث هو أبو بكر بن حزم(43).
أما فريد وجدي، فهو الآخر يعتقد بأن أوّل من ألّف الحديث هو مالك بن أنس وليس ابن حزم حيث يقول:
(أوّل من ألّف الحديث الإمام مالك في الموطأ (توفي 111 هـ) وقيل: ابن جريج (المتوفّى 150 هـ)(44).
ويقول كاتب شلبي في كتابه (كشف الظنون):
(فانتهى الأمر إلى زمن جماعة من الأئمة، مثل عبد الملك بن جريج ومالك بن أنس وغيرهما فدوّنوا الحديث، حتى قيل: إنّ أوّل كتاب صنّف في الإسلام كتاب ابن جريج، وقيل: موطأ مالك بن أنس وقيل: إنّ أوّل من صنّف وبوّب الربيع بن صبيح بالبصرة)(45).
ويذكر الحافظ الذهبي في حوادث سنة (143 هـ) أنه في هذه السنّة، بدأ علماء مكة والمدينة بتدوين الحديث(46).
ويتعرض الدكتور أحمد أمين لهذه المسألة، وبعد أن يتطرق لرسالة عمر بن عبد العزيز لابن حزم يقول:
(ولكن هل نفذ الأمر؟ كل ما نعلمه أنه لم تصل إلينا هذه المجموعة، ولم يشر إليها، فيما نعلم، جامعوا الحديث بعد. ومن أجل هذا شك بعض الباحثين من المستشرقين في هذا الخبر، إذ لو جمع شيء من هذا القبيل لكان من أهمّ المراجع لجامعي الحديث، ولكن لا داعي إلى هذا الشك، فالخبر يروي لنا أنّ عمر أمر، ولم يروي لنا أن الجمع تمّ، فلعل موت عمر سريعا عدل بأبي بكر عن أن ينفذ ما أمر به)(47).
كما تشاهد ـ أيها القارئ ـ فإن العلماء والمحقّقين يختلفون اختلافا كبيرا حول أوّل من دوّن الحديث عند الجمهور. ولإثبات دعواهم، بأنّ تدوين الحديث كان على عهد عمر بن عبد العزيز، لم يتمكّنوا من العثور على دليل مقنع في هذا المجال سوى ما ذكرناه لك من نقل البخاري لرسالة عمر ابن عبد العزيز إلى عامله في المدينة، ولكن لا يوجد دليل على أن الطلب قد تحقق في حياة الخليفة، بل أن الشواهد، والقرائن التاريخية، تشير إلى عكس ذلك.
وعلى أي حال، فبعد انقضاء فترة زمنية طويلة تقدر بـ (1 ـ 5 ، 1) قرن، بدأ تدوين الحديث، بعد أن تراكم عليه غبار النسيان.
بدأ هذا العمل بالإكراه والجبر من قبل السلطة، لأنّ المسلمين كانوا يعتقدون ـ ولفترة طويلة ـ بأنّ تدوينه محرم، ولم يكن ليجرأ على ذلك، أحد منهم.
فقد حدّث معمر عن الزهري أنه قال: (كنّا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا عليه)(48).