كان أسامة طفلا نشيطا، يحبّ المدرسة ويتفوّق فيها، وكان دائما ينال جوائز كثيرة من المدير لأنّه يشارك في المسابقات التي تجريها المدرسة.
وفي مرّة من المرّات، وفي حفل كبير حضر فيه جميع المعلّمين و التلاميذ وآبائهم وأمهاتهم، سلّم المدير جائزة لأسامة وقال لجميع الحاضرين:
- هذا أحسن تلميذ عندنا في المدرسة.
ثم طلب المدير من أسامة أن يقول كلمة في هذه المناسبة، فقال:
- هذه الجائزة هي العاشرة لحدّ الآن، وهذا دليل على أنّ الذي يحبّ النجاح يصل إليه دائما.
ابتسم المدير في وجه أسامة وشكره على مجهوداته في الدراسة، ونظرة الحزن ظاهرة على وجهه.
حين عاد أسامة مع والديه إلى المنزل وفتح جائزته سأله أبوه:
- هل أعجبتك الجائزة؟
قال أسامة: نعم
قالت أمّه: ولكنّك لم تظهر سعادتك للمدير حين كان يتكلّم معك.
سكت أسامة ولم يرد على أمه.
في تلك الليلة بعد أن أنهى أسامة كلّ واجباته، وأنهت الأم أعمالها كاملة ذهبت إلى غرفة ابنها الحبيب، فجلست إليه، ووجدت الفرصة مناسبة للحديث معه، فأحبّت أن تقصّ عليه قصّة من القصص التي اعتاد الاستماع إليها بين الحين والآخر.
وكانت هذه القصة لشاب حسن الخلق يدعى "أسامة" مثله.
قالت الأم:
" كان في إحدى البلدان ملك يحبّه شعبه حباّ كبيرا، لأنّه حكم الدولة بالعدل، فلمّا جاء يوم مرض هذا الملك مرضا شديدا، وجاء أطباء القصر فحاولوا علاجه بشتّى الطرق ولم يصلوا إلى نتيجة، فطلب الملك أن يأتي إليه كل أطباء المملكة، وبالفعل، جاؤوا أفواجا، وكل واحدة منهم يحاول المساعدة فلا يستطيع، ويعود خائبا حزينا لعدم قدرته على فعل شيء للملك، وعلى ضياع الجائزة الكبيرة التي وعد بها الحاكم صاحب الدواء.
وفي يوم من الأيام، وبينما اشتدّت الأوجاع على الملك حتى كاد الناس ييأسون من نجاته، جاء شاب فقير، رثّ الثياب، لا يظهر أنّ لديه أية علاقة بالطب أو الدواء، فقال لحرّاس القصر: أريد أن أدخل على الملك، فلديّ- بإذن الله سبحانه وتعالى- الدواء.
ضحك منه الجميع، فقد رأوا الأطباء الكبار يعترفون بفشلهم، فكيف لهذا الشاب أن يدّعي بأنّ لديه الدواء؟ إلاّ أنّهم سمحوا له بعد أن أصرّ على الدخول ورفض الرجوع إلى قريته قبل لقاء الملك.
حين رأى الملك أسامة قال له:
- أتريد أن تجرب دواء في جسد الملك، أتعرف أنّ دواءك إذا لم ينجح فإني سآمر بقطع رأسك؟
لم يتكلّم أسامة، ولكن اخرج من جيبه تفاحة حمراء كبيرة، وقال:
- هذه أجود تفاحة عندي في مزرعتي الصغيرة، أتّمنى بإذن الله جلّ جلاله أن يكون لك الشفاء بعد تناولها.
أخذ الملك التفاحة، ونظر إليها بعض الوقت وقال في نفسه:
- لا بأس، فهي تفاحة كبيرة وجيّدة، إذا لم تشفيني فلن تضرنّي، ثم أكلها كاملة، في حين عاد أسامة إلى فريته.
وحدث ما تمنّاه أسامة، وما تمنّاه أهل المملكة جميعا، فقد زالت الأوجاع في ذلك اليوم عن الملك، وبعد أيام بدأ ذلك الشحوب يختفي من وجهه، بل وعادت إليه شهيته للأكل، ولم يمر وقت طويل حتى عاد إلى حركته الطبيعية، وشفي تماما.
وطلب الملك من حرّاسه أن يذهبوا فيبحثوا عن هذا الشاب الذي فعل ما لم يستطع فعله الأطباء الكبار، فجاؤوا به إليه وقال له:
- بفضلك عدت إلى الحياة من جديد.
ردّ أسامة:
- ليس بفضلي، ولكن بفضل الله تعالى.
قال الملك: أطلب ما تريد، فسأعطيك إياه، وإن طلبت أن أعطيك نصف المملكة فسأقبل طلبك.
رفض أسامة كلّ شيء، فقد أخذه أصحاب الملك إلى القصور والمزارع وجميع ما يملكه الملك، فلم يقبل أن يأخذ شيئا منها.
عجب الملك من تصرف هذا الشاب، وقال لأصحابه:" هل رأى كل ما أملك"؟ فأخبروه أنّه رأى كلّ شيء إلاّ قصرا واحدا هو أبعد القصور ويقع وراء بحر واسع الأطراف.
ذهب الشاب مع أصحاب الملك إلى ذلك القصر، كان قصرا عظيما متّسع الأرجاء، فتجوّل فيه الشاب طويلا ووجد فيه لألئ وجواهر رائعة، إلاّ أنه لم يأخذ شيئا منها.
كان هذا القصر آخر شيء يملكه الملك، فإذا لم يأخذ منه سيئا فإنّه لن يأخذ شيئا آخر، وتأسف الجميع لأن هذا الشاب الذي أنقذ الملك من الموت لا يريد جائزة مقابل عمله الطيّب.
قبل خروج أسامة، التفت إلى إحدى الجهات في القصر، فرأى زجاجة عطر صغيرة، أخذها وشمّها، فأعجب برائحتها الطيبة الزكيّة، ثم قال لأصحاب الملك:
- أريد هذه الزجاجة فقط.
اندهش الجميع، وقالوا له: هل تترك كل شيء، وتأخذ هذه الزجاجة فقط؟ !
قال: نعم، لا أريد إلاّ هذه.
ثم عاد إلى مزرعته، وذهب إلى شجرة التفاح التي أخذ منها الحبة التي قدّمها للملك وكانت سببا في شفائه، فسقاها بذلك العطر.
احتار الملك لتصرف هذا الشاب، فأي واحد في مكانه كان سيطلب قصرا أو مزرعة عظيمة أو غيرها من الأشياء الثمينة، أمّا هو فلم يطلب إلاّ زجاجة عطر !!
وحين طلب الملك من أسامة أن يخضر عنده من جديد قال له:
- أفهمني أيها الشاب، لماذا رفضت كلّ شيء ثمين عرضناه عليك ولم تأخذ إلاّ زجاجة العطر؟
قال الشاب: لقد أعطتني الشجرة تفاحة طيّبة شفت الملك، فأردت أن أشكرها على ذلك، ولم أجد طريقة أخرى أشكرها بها إلاّ زجاجة العطر.
فرح الملك بهذا الشاب فرحا عظيما، فقد أخلص للشجرة لأنها أعطته منفعة ما ولم يجحد خيرها، وظلّ الملك كلّما احتاج أن يستشير أحدا بعث إلى الشاب فاستشاره، وعاش سعيدا في مملكته، وعاش أسامة أكثر سعادة بمزرعته وشجرته"
انتبهت الأم إلى ابنها فوجدته يفكّر فسألته:
- ما بك يا أسامة، ألم تعجبك القصة؟
قال: بلى، لقد أعجبتني ولكنّ الشاب في القصة التي حكيت لي عنها شكر الشجرة التي أعطته الدواء، وأنا....
قالت الأم: ما بك أنت؟
لم يجب أسامة على سؤالها، لكنّه ذهب في الغد إلى مدير المدرسة الذي أعطاه الجائزة وشكره شكرا جزيلا واعتذر منه لأنّه أخذها دون أن يقول له كلمة طيبة واحدة.
وحين عاد إلى المنزل وحكى لأمه ما حدث له مع المدير قالت له:
- تصرفك هذا يا أسامة يوافق قول الله تعالى:" وهل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان".