تتمة الحــقيقــــة simo III – أنواع الحقيقة :
يتعلق هذا المحور بالمجال الذي تستمد منه الحقيقة قوتها في الاقناع : وفي هذا الاطار نجد نوعين من وسائل الاقناع : وسائل ذاتية تنتمي إلى الحقيقة ذاتها كالبرهان والخطاب ووسائل توجد خارج الحقيقة و تتعلق بالسلطة كمنتجة للحقيقة و مدافعة عنها ، النوع الأول يتخذ أشكالا متعددة فكل حقيقة تحتاج إلى برهان يختلف باختلاف مراتب الناس في التصديق والاعتقاد فهناك برهان عقلي و جدلي و خطابي وآخرسوفسطائي.
الحقيقة و الخطاب :
يهدف كل خطاب/قول إلى التأثير في المخاطب وحمله على الاقتناع و بالتالي استمالته لصالح محموله أو دعواه (حقيقته) وهذا يتضمن أن كل خطاب ينطوي على شكل من أشكال الحجاج والبرهنة وعلى هذا المستوى نجد أنواعا عديدة من الخطاب : الديني و الفلسفي و العلمي و الفني ...بل إنها متعددة حتى داخل الخطاب الواحد (المادية و المثالية في الفلسفة ...)فهل الحقيقة واحدة رغم هذا العجاج من الخطابات أم أنها تتعدد بتعدد الخطابات ؟ الجواب على هذا السؤال يختلف باختلاف أنماط الخطاب السائدة وحسب العصور . - ففي العصور الوسطى حيث سيطرة الفكر الديني مال الفلاسفة إلى فكرة الوحدة (وحدة الحقيقة الدينية) رغم تعدد أنماط القول البرهاني .أما في العصر الحديث حيث سيادة الفكر العلمي (استقلال العلم عن الدين والفلسفة) ستظهر روح جديدة تقر بتعدد الحقائق.
وحدة الحقيقة :
في عصر سيادة الفكر الديني (النص المقدس) الذي يطمح إلى العمومية / الكونية أي خطاب موجه إلى كافة الناس . ومن هنا حرصه على أن يكون مفهوما من طرف الجميع . وبما أن الناس غير متجانسين من حيث قدراتهم الإدراكية والعقلية ، فقد لزم أن تبلغ الحقيقة الدينية الواحدة بأساليب مختلفة ملائمة لطباع الناس في التصديق ، وهكذا يميز ابن رشد بين ثلاثة أنواع من القول الإقناعي : أسلوب يعتمد التنبيه والترغيب والترهيب وضرب الأمثال والوعد والوعيد (الموعظة الحسنة)/ الخطابة ثم الجدال وهو قول جدلي خاص بالمتكلمين ينطلق من مقدمات ظنية وينتهي إلى نتائج ظنية (المتكلمين) وأخيرا الحكمة وهي قول برهاني خاص بالفلاسفة ينطلق من مقدمات يقينية ويصل إلى نتائج يقينية وتعدد أنماط الخطاب عند ابن رشد ضرورة بيداغوجية اجتماعية (التواصل والتوصيل) لكنه لا يؤثر على وحدة الحقيقة بشرط احترام شروط الاجتهاد والتأويل .
تعدد الحقائق :
ستتغير هذه النظرة لعلاقة الحقيقة بالخطاب في العلم والفلسفة المعاصرين . لقد كانت الحقيقة الدينية متضمنة في نص تستخرج بآليات مختلفة :(شرح، تفسير، تأويل،قياس ...) وتبلغ بأساليب متنوعة :(خطابة،جدل،برهان...) أما في العلم فلقد أصبحت الحقيقة متعلقة بالبرهان العلي لا يمكن لأي حقيقة أن تقرر نفسها بدون برهان ، والبرهان من حيث هو منهج أو طريقة في البحث لا يتعلق بنص أو قول بل بموضوع . فالعلوم تتحدد بموضوعاتها ومناهجها . ولما كانت موضوعات العلوم مختلفة (طبيعية، إنسانية) من حيث الطبيعة لزم بالضرورة أن تختلف مناهجها . فطبيعة الموضوع تفرض وتحدد نوعية المنهج المنبغي استخدامه . ويترتب عن تعدد المواضيع والمناهج تعدد الحقائق ، فلا وجود في العلم لحقيقة واحدة بل لحقائق متعددة حتى داخل القطاع الواحد ، فمثلا مع ظهور الهندسات اللاوقليدية لم يعد بالإمكان الحديث عن حقيقة هندسية واحدة ومطلقة بل هندسات ، وقد ساعد في تعدد الحقائق الأزمات التي عرفتها العلوم في القرن 19 ...
والواقع أن الحقيقة لا تستمد قوتها أو سلطتها على الإقناع من ذاتها (برهان،خطاب) وإنما قوتها من السلطة التي تحاول تكريسها في المجتمع من خلال مؤسساته ، وإذا كان المجتمع مؤسسة كبرى فإنه يملك نظاما لإنتاج الحقيقة كما يمليها على أفراده لتبني هذه الحقيقة تتمتع بخصوصية المجتمع الذي ينتجها .
الحقيقة وأضدادها :
هل ما هو حقيقي (صحيح ، متجانس ، خالص وقائم بذاته في مقابل وفي تعارض مع ما ليس حقيقيا ؟ أو هل اللاحقيقي (الخطأ ، الوهم ، الكذب ... )يوجد ويقيم خارج الحقيقي ؟ ثم هل العلاقة بينهما علاقة اتصال أم انفصال ؟ تداخل أم/ انشقاق ؟
في المنظور التقليدي :
يرى ديكارت أننا لا نخطئ إلا حينما نحكم على شيء لا تتوفر لدينا معرفة دقيقة عنه ويعتبر أن الحقيقة بسيطة ومتجانسة خالصة وبالتالي متميزة وواضحة بذاتها . فالحقيقي بديهي بالنسبة للعقل ولا يحتاج إلى دليل ومتميز عما ليس حقيقيا ، إنه قائم بذاته كالنور يعرف بذاته دونما حاجة إلى سند كما قال اسبينوزا ، واللا حقيقي كالظلام يوجد خارج النور .فالفكرة الصحيحة (الكل أكبر من الجزء) صادقة دوما ونقيضها خاطئ دوما .هذه النظرة الانفصالية ستتراجع لصالح النظرة التي تقر بالتداخل بين الحقيقة وأضدادها وذلك نتيجة لعدة عوامل : الأزمات التي عرفها العالم المعاصر إثر ظهور الهندسات الأوقليدية النسبية ، نظرية المجموعات .. ظهور الفكر الجدلي مع هيغل وماركس . النقد الجدلي للعقل الذي اتخذ شكلا فلسفيا مع نيتشه (فضح أوهام العقل ، وسوسيولوجيا مع ماركس ونفسيا مع فرويد) .
في المنظور المعاصر :
تداخل الحقيقة و اللاحقيقةلقد بين هيغل عن طريق التحليل الجدلي ان كل شيء يحمل في جوفه ضده ويوجد بفضله و ينعدم بانعدامه ، ومن هذا المنظور الجدلي فالخطأ هو الضد الجدلي للحقيقة أي أساسها و مكونها أما باشلارفيعتبر أن الحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه وأن كل معرفة علمية تحمل في ذاتها عوائق ابستمولوجية تؤدي إلى الخطأ وأول هذه العوائق الظن أو بادئ الرأي وهذا يعني أن الحقيقة لا تولد دفعة واحدة فكل الاجتهادات الانسانية الاولى عبارة عن خطأ واكتشاف الخطأ وتجاوزه هو الخطوة الأولى نحو الحقيقة. هكذا لم يعد ممكنا في المنظور المعاصر تصور الخطاب العلمي حاملا لحقائق صافية مطلقة يقول إدجار موران الذي يثبت أن فكرة الحقيقة هي المنبع الأكبر للخطأ. والخطأ الاساسي يقوم في التملك الوحيد لجانب الحقيقة. ان النظريات العلمية مثلها مثل جبل الجليد فيها جزء ضخم منعمر ليس علميا و لكنه ضروري للتطور العلمي.أما نيتشه فيرى أن الحقائق مجرد أوهام تنسينا أنها أوهام وذلك بسبب نسيان منشأ اللغة وعملها لأن اللغة ما هي إلا استعارات وتشبيهات زينت بالصورة الشعرية والبلاغية مما يجعل من الصعب التوصل إلى الحقائق بواسطة الكلمات أو إلى تعبير مطابق للواقع و للكيانات الأصلية للأشياء بالإضافة إلى نسيان الرغبات والأهواء والغرائز التي تحول دون السلوك الانساني وتدفعه إلى الكذب والإخطاء ، بدل الكشف والإظهار وبذلك يصبح الطريق إلى الحقيقة ليس هو العقل أو اللغة بل النسيان و اللاشعور.
IV – الحقيقة بما هي قيمة :
إن اعتقاد الانسان في الحقائق وسعيه المتعطش وراءها أمر ضروري لاستمرار الحياة الاجتماعية والاخلاقية كما تبين في المحور السابق ولعل هذا ما يطرح مسألة الحقيقة كقيمة ، فمن أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ ما الذي يجعل الحقيقة مرغوبا فيها وغاية وهدفا للجهد الانساني؟.إن الجواب عن هذا الإشكال قديم قدم الفكر الفلسفي .فالفلاسفة اليونان اعتقدوا أن قيمة الحقيقة هي في ذاتها . وما يجعلها كذلك أنها حقيقة خالصة متعالية عن كل منفعة مادية يسعى إليها الانسان ويتخذها غاية لكل معرفة لاعتقاده في صحتها ويقينها لأنها موضوع البحث والاكتشاف أو البناء في الفلسفة التقليدية(أفلاطون، أرسطو، ديكارت..) و ما دام الأمر كذلك فالحقيقة الفلسفية هي الوحيدة التي تتمتع بقيمة الحق، وقد استمر هذا التصور قرونا طويلة حتى إذا ما لاح العصر الحديث ، عصر الثورة العلمية وجدنا الاهتمام بالحقيقة العلمية التجريبية كحقيقة ذات قيمة . فلقد أشاد اكوست كانت بالمعرفة العلمية وبمنهجها التجريبي واعتقد أن الحقيقة الفعلية لا تكون ذات قيمة إلا إذا تحققت تجريبا . وبهذه الطريقة نستطيع التمييز بين الحقيقة واللا حقيقة . وقد سارت الوضعية المنطقية بهذه الفكرة إلى أبعد الحدود بحيث جعلت معيار التمييز بين الحقيقة واللا حقيقة هو القابلية للتحقق . وبهذا المعنى فالحقيقة الدينية والفلسفية وما شابههما لا تتمتع بالقيمة ما دامت تفقد معيار التحقق . إنها إذن أشباه حقائق .أما في الاتجاه البراغماتي (النفعي/الدرائعي) فقد اتخذت الحقيقة معيارا جديدا . يقول أحد رواد هذا الاتجاه "ويليام جيمس" : " وإذا كانت حقيقة من الحقائق ذات قيمة ، وإذا كانت بالتالي صادقة ، وجب أن تكون نتائجها حسنة ، وسبيلها الوحيد إلى اختبار صدقها هو كونها مؤيدة أو خاذلة للمصلحة ، مشبعة أو معوقة للغرض الذي أدى إلى إنشاء الحقيقة . فإن هي أيدت المصلحة وأشبعت الغرض كانت الحقيقة حسنة وبهذا القدر صادقة ، وإن لم تؤيدها كانت سيئة وكاذبة " . يتبين من هذا القول أن قيمة الحقيقة ترتبط بما يترتب عنها من منفعة أو مصلحة . فكل فكرة تكون عملية وذات نتائج حسنة فهي فكرة حقيقية أو هي الحقيقة ذاتها ، وكأن الذرائعية تعود بنا إلى السوفسطائيين عندما اعتقدوا أن الانسان مقياس كل شيء .إن ربط الحقيقة بالمنفعة عند كانط غير ممكن وذلك لسببين : أولهما أن الحقيقة ستصبح نسبية ، وفي هذه الحالة ستختلط الحقيقة بنقيضها . وثانيهما أن الحقيقة الأخلاقية على وجه الخصوص إذا ما اعتبرناها نفعية فإننا قد نتشبت باللاحقيقة لمجرد أنها نافعة فنرتكب كثيرا من الشرور ، فليس الانسان مقياس كل شيء ، لأن الحقيقة وإن كانت مرتبطة بالانسان فإنها مشروطة بالواجب الأخلاقي . وهو واجب كلي وكوني لا يستثنى منه أي إنسان . فما يضر الفرد يضر الجماعة ، وما ينفعه ينفعها أيضا . الأمر الذي يجعل الحقيقة واحدة ، ومطلقة وثابتة ومن تم يستحيل أن تنقلب إلى نقيضها .